ضوابط إقامة الحدود الشرعية - الشيخ علي حسن

يبدو أحياناً أن بعض مَن يتحدثون عن إقامة العقوبات الشرعية يتصورون أنها غاية أساسية في تطبيق الشريعة الإسلامية وفي كينونة الدولة الإسلامية، بالمستوى الذي تقفز فيه صورة الرجم والجلد وقطع اليد إلى ذهن الإنسان عندما يسمع كلمة (الدولة الإسلامية) أو (إقامة الحكم الإسلامي) وما شابه.. وكذلك بالمستوى الذي يظهر فيه دعاة تطبيق تلك الحدود وكأنهم يتعطشون لإقامة عقوبة رجم أو جلد أو قطع يد، ويبحثون عن أية حالة يمكن من خلالها إقامة هذا الحد أو ذلك التعزير.
قواعد تأسيسية أولاً:
والحال أن مسألة العقوبات الشرعية تأتي كمرحلة متأخرة تسبقها مرحلة تأسيسية للقواعد التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي إيمانياً وأخلاقياً وعملياً، ومن ثَم تترتب العقوبة في ما لو تم ارتكاب جريمة ما. فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحدث عن عقوبات ترتبط بالسرقة أو غير ذلك إلا بعد أن أسس تلك القواعد ورسّخها، فأخذت مداها في المجتمع بالمستوى الذي استوعب معه المسلمون ما هو مطلوب منهم، وما هو ممنوع عليهم.. ولم يتحدث عن تلك العقوبات إلا بعد أن هيأ الأرضية لتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير أجواء العفة والحياء وغير ذلك من الأسس الذي ينبني عليها المجتمع بشكل سليم، لتكون هناك حالة من الردع الذاتي والرقابة الشخصية، والتي ستكشف حينها عن أن من يتعدى ويرتكب الجريمة إنما هو شخص معقّد أو ذي نوازع إجرامية أو تمردية على قيم المجتمع الآمن وأوضاعه.
متى نزل حكم القطع:
فحد السرقة مثلاً يأتي في سورة المائدة، وهي من أواخر السور النازلة على النبي إن لم تكن آخرها على الإطلاق، وهذا مؤيِّد واضح لما ذكرته في الأسطر الماضية، وبالإضافة إلى ذلك فإنه لا يصح فصل الآيتيتن (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) المائدة: 38 – 39، عن الجو العام للسورة.
ففي بداية السورة أمر بالوفاء بالعقود.. ثم استعراض لماهية العقود والمواثيق التي يجب الالتزام بها.. ثم استعراض لأمثال تربوية من مواقف الأمم والشعوب ومدى الوفاء بها أو خيانتها وعاقبة ذلك.. وفي هذه الأجواء يأتي بيان الحدود والعقوبات المقررة للجرائم، ومن بينها السرقة، فهي ليست جريمة شخصية فقط، بل نقض للميثاق الإيماني والاجتماعي. ويأتي ذلك كله في أسلوب قرآني تلتقي فيه التربية الوجدانية بالتشريع الاجتماعي، والتوجيه الأخلاقي بتفصيل الحلال والحرام، وتصحيح العقائد والشعائر.
وهذا ما أكده الباحث الشيخ عبد الكريم الحمداوي في بحثه القيّم المنشور تحت عنوان (حد السرقة بين الفهم والتطبيق) حيث قال: (يتعذر... تطبيق مضمونها في مجتمع غير إسلامي اختلت عقيدته وفسدت نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية).
وحد الزنا أيضاً:
وهكذا عندما نأتي إلى عقوبة الزنا في سورة النور وهي من الآيات النازلة في العصر الوسيط لحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة، نجد أنها محاطة بتشريعات وآداب ترتبط بالعلاقة بين الجنسين، من ضرورة غض البصر، وارتداء المرأة للباس الشرعي، والحث على الزواج، وصفات الزوج الصالح والزوجة الصالحة، وتقوية الارتباط الروحي بالله من خلال المساجد، والاستئذان قبل دخول بيوت الآخرين، وحتى تصرفات الأطفال مع آبائهم في ساعات الخلوة، وعدم الاتهام بالزنا إلا مع وجود الدليل القاطع، ومبغوضية نشر أخبار الفاحشة.. إلخ. فهل يصح الحديث عن إقامة ذلك الحد دون الأخذ بعين الاعتبار كل هذه العناوين التي تكمل صورة المجتمع الذي يريد الإسلام بناءه ويضع له القوانين ومن ثم منظومة العقوبات الرادعة؟ ولماذا لا يتحدث دعاة إقامة الحدود الشرعية عن تحقيق كل هذه المنظومة في المجتمع ويقتصرون على جانب إقامة الحدود؟
درأ الحدود أَوْلى:
ثانياً، فإن أموراً كثيرة تدرأ عن إقامة الحد، ولنلاحظ الأمثلة التالية:
1. في الكافي بسند معتبر عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (السارق إذا جاء مِن قِبل نفسه تائبا إلى الله عز وجل، تُرد سرقته إلى صاحبها ولا قطع عليه).
2. قال ابن حزم في المحلى: (وقال قوم: إن الحدود كلها تسقط بالتوبة.. واحتج أصحاب هذه المقالة بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ماعز عندما مسته حجارة الرجم فخرج يشتد: "ألا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه؟ يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك").
3. روى الشيخ الصدوق عن الأصبغ بن نباته قال: أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام فقال: (يا أمير المؤمنين، إني زنيت فطهِّرني. فأعرض عنه بوجهه، ثم قال له: اجلس، فقال: أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه، فقام الرجل فقال: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني، فقال: وما دعاك إلى ما قلت؟ قال: طلب الطهارة. قال: وأي طهارة أفضل من التوبة؟! ثم أقبل على أصحابه يحدثهم، فقام الرجل فقال: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني، فقال له: أتقرء شيئا من القرآن؟ قال: نعم. قال: اقرأ. فقرأ فأصاب، فقال له: أتعرف ما يلزمك من حقوق الله في صلاتك وزكاتك؟ قال: نعم. فسأله فأصاب، فقال له: هل بك مرض يعروك أو تجد وجعا في رأسك أو بدنك؟ قال: لا، قال: اذهب حتى نسأل عنك في السر كما سألناك في العلانية، فإن لم تعد إلينا لم نطلبك). وفي نص آخر أنه قال: (ما أقبح بالرجل منكم أن يأتي بعض هذه الفواحش فيفضح نفسه على رؤوس الملأ، أفلا تاب في بيته؟ فوالله لتوبته فيما بينه وبين الله أفضل من إقامتي عليه الحد).
4. الحديث النبوي الذي رواه المسلمون عامة: (اردرؤوا الحدود بالشبهات)... والقاعدة تتمثل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة). تخفيف العقوبة:
ثالثاً، فإن بعض الحالات تستدعي التخفيف في العقوبة بشكل كبير، ففي حديث عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (... إن رسول الله صلى الله عليه وآله أتي برجل أحبن مستسقى البطن "مريض بالاستستقاء"، قد بدت عروق فخذيه، وقد زنى بامرأة مريضة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بعَذْق فيه شمراخ "سعف النخيل"، فضرب به الرجل ضربة، وضُربت به المرأة ضربة ثم خلى سبيلهما، ثم قرأ هذه الآية "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ").
كما أن حد قطع اليد عند السرقة لا يقام على أي سارق، بل إذا توفرت مجموعة من الشروط تصل إلى 9 شروط ذكرها الفقهاء في كتبهم، ومن الصعب اجتماعها إلا في حالات خاصة، وبالتالي لو تحققت السرقة دون استكمال تلك الشروط فإن هذه العقوبة تُخفَّف إلى عقوبة أخرى متناسبة مع طبيعة الجريمة وحجمها.
آداب إقامة الحد:
رابعاً، تحدثت النصوص الإسلامية عن آداب خاصة بإقامة الحد، لاحظ مثلاً هذا الخبر الذي يرويه الكليني عن هشام بن أحمر، عن العبد الصالح (الإمام موسى الكاظم) عليه السلام قال: (كان جالساً في المسجد وأنا معه، فسمع صوت رجل يُضرب صلاة الغداة في يوم شديد البرد، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يُضرب، فقال: سبحان الله، في هذه الساعة؟! إنه لا يُضرب أحد في شئ من الحدود في الشتاء إلا في أحرّ ساعة من النهار، ولا في الصيف إلا في أبرد ما يكون من النهار).
وفي المغني لابن قدامة: (روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين وهكذا الضرب يكون وسطاً، لا شديد فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع. ولا يرفع باعه كل الرفع، ولا يحطه فلا يؤلم. قال أحمد: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود. يعني: لا يبالغ في رفع يده، فإن المقصود أدبه، لا قتله).
التوبة أفضل:
ولذا نقول أننا في الوقت الذي ندرك فيه أهمية دعم سن القوانين بمجموعة من العقوبات الرادعة: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة:179، إلا أننا أيضاً نؤكد على أن آخر ما يتمناه الإسلام هو إقامة الحدود والتعزيرات، وأنه يفضّل أن يتوب الإنسان مع ربه، وأن الجريمة لا تثبت بدون إقرار إلا بأدلة دامغة دقيقة بالتفصيل الذي لا يدع مجالاً للاحتمال الضعيف المضاد، وأن الحدود قد تُدرأ في حالات عديدة، وقد تُخفَّف العقوبة لأسباب عدة، فالإسلام جاء أساساً لينشئ مجتمعاً صالحاً بالتربية والتوجيه وتنفيذ القوانين، لا ليُرهب الناس ولا ليقطع ويجلد ويسجن، وكل هذا يأتي بعد تحقيق مجموعة من المقدمات الأساسية.
كما أن من الإجحاف إطلاق الحديث عن تطبيق نظم العقوبات الشرعية في مجتمع غير قائم على النظام الإسلامي أصلاً، أو في مجتمع إسلامي اختلّت فيه الأوضاع الإيمانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية ولم يطبَّق فيه حكم الإسلام إلا صورياً، أو في موارد اجتزائية انتقائية.
شباب.. ضحايا:
ولذا فإننا لو أردنا أن نطلق القول ـ في مجتمعنا ـ بإقامة حد الردة عند التعرض بالسوء للذات الإلهية أو للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أو لغيرهما من العناوين المقدسة عند المسلمين، فسيكون ذلك متعارضاً مع ما تم تأكيده مسبقاً، لاسيما بلحاظ خطأ استلال آية حد السرقة من سياقها في سورة المائدة، وآية الزنا من سياقها في سورة النور، وهو ما يؤكد ضرورة مراجعة المشهد السياسي والثقافي والتربوي والإعلامي في الكويت على المستويين الرسمي والشعبي قبل الحديث عن إقامة أي حد من الحدود الشرعية.
إن أي منصف لن يختلف معي في الوصول إلى نتيجة واحدة وواضحة، وهي أن الأجواء الانفعالية والمواقف الاستعراضية هي السمة الغالبة لكل الحراك السياسي والثقافي والتربوي والإعلامي، فهل نتأمل في ظل هذه الأجواء أن نضبط مشاعر وسلوكيات وردود أفعال الشباب الذين لا يخفى على أي حصيف أن العاطفة عندهم متغلبة ـ بطبيعتها ـ على العقل بحكم المرحلة السنية التي يمرّون بها.. وهل من الإنصاف أن نحاكمهم ونعاقبهم قبل أن نحاكم ونعاقب (الكبار) الذين يرسمون معالم كل ذلك المشهد البائس؟ وفي الخبر عن أمير المؤمنين علي عليه السلام يصف فيه المجتمع حين تطغى عليه الصورة السلبية: (اعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل... فتاهم عارم، وشائبهم آثم، وعالمهم منافق) وكأن الصورة السلبية للشباب هي جزء من الصورة السلبية الكلية للمجتمع بشيبته وعلمائه.
ممارسات الجهات الحكومية:
هناك عدة جهات يفترض بها أن تكون مسؤولة عن رسم معالم المشهد الثقافي والتربوي والإعلامي في الكويت، فما الدور الذي قامت به هذه الجهات بما يرفع المجتمع إلى مستوى يمكن بعده أن نتحدث عن تطبيق الحدود الشرعية فيه؟ وهل فعلاً استطاعت أن تحقق المقدمات وتوفر الأجواء اللازمة بالمستوى الذي تحدثت عنه سورة المائدة أو سورة النور في خصوص حدي السرقة والزنا مثلاً؟
إن من حق كل كويتي حريص على هذا البلد أن يتساءل عن مستوى التنسيق بين الجهات الحكومية التالية: وزارة الإعلام.. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.. وزارة التربية.. وزارة التعليم العالي (خصوصاً كلية الأصول والشريعة).. الهيئة العامة للشباب والرياضة.. لجنة الوسطية.. التنسيق الذي يتم من خلاله تعديل ذلك المشهد الذي يزداد بؤساً يوماً بعد يوم، ووفق استراتيجية وطنية واضحة، لا تحكمها الطائفية، ولا يستهدف من ورائها إشباع أطماع البعض في نيل المناصب أو تحقيق المكاسب المادية أو الاستعراض الإعلامي الفارغ.. التنسيق الذي يعيد صياغة فكر وأخلاقيات وسلوكيات الشباب الكويتي الذي يتجاذبه المتطرفون من الطائفيين والتكفيريين والعلمانيين ليقعوا في النهاية ضحية كلمة غير مسؤولة أو تصرف أخرق.
مخرجات متطرفة:
إن من حق كل كويتي غيور على وطنه أن يتساءل عن مخرجات التعليم العالي والمعهد الديني والمراكز الدينية الواقعة تحت إشراف وزارة الأوقاف، وعن مدى تناغمها مع الجهود الاستراتيجية المدّعاة لترسيخ قيم الوسطية في المجتمع، أم أنها في واقعها تتعارض تعارضاً بيّناً مع تلك الاستراتيجية الوسطية؟ وهل نجحت اللجان والهيئات المشكلة لتحقيق الوسطية في إشراك أهل الاختصاص بما يعكس حقيقة التنوّع المذهبي والفكري الذي يعيشه المجتمع؟ وما مدى الاستعانة بالمتخصصين في شؤون الإعلام وعلماء النفس واختصاصيي علم الاجتماع لتقديم الحلول العملية والواقعية لكل هذا العبث الحاصل في المشهد الكويتي؟ أعتقد أن الإجابة عن كل التساؤلات السابقة واضحة لكل متابع لما يجري على الأرض، وخلاصتها أن كثيراً مما يؤسَّس باسم الوسطية أو توجيه الشباب ورعايتهم دينياً سرعان ما يتحول إلى أداة جديدة بيد المتطرفين والمتعصبين.
غبن مستمر:
وستبقى الهواجس المتعلقة بالغبن الذي يشعر به المواطن الكويتي من أبناء الطائفة الجعفرية في نيل حقوقه التي كفلها له الدستور على مستوى تأسيس المحكمة الجعفرية الخاصة بالأحوال الشخصية وتشييد المساجد في المناطق المختلفة (بشكل طبيعي ودون تعقيدات وعراقيل وأعذار يختلقها مسؤول هنا وموظف هناك ليبقى الطلب يتأرجح طيلة سنوات عديدة في أروقة الوزارات والإدارات البلدية.. وقد يرى النور.. وقد يبقى حبيس الأدراج) وفي تشريع قانون الزكاة الذي لم يعطِ الحق للمواطن أن يوجّه زكاته إلى مؤسسة رسمية كإدارة الوقف الجعفري، بينما تعطيه الخيار في توجيهها إلى بيت الزكاة أو وزارة المالية.. وغيرها من قضايا ستبقى هاجساً يشحن الشباب ويدفعهم لاتخاذ مواقف والاتيان بسلوكيات وردود أفعال غير متزنة تعود طائلتها على المجتمع برمته.
ممارسات الجهات الشعبية:
وهكذا تأتي في نفس الاتجاه ممارسات مجلس الأمة التي بات يغلب على أعضائه الأسلوب الاستعراضي ويتم من خلاله دغدغة مشاعر الناخبين بتصريحات واستجوابات وسن قوانين دون مراعاة للآثار السلبية الكثيرة التي تهدم أسساً كثيرة شيّدها أبناء هذا المجتمع طوال عقود مضت، ولا تعطي مجالاً للتفكير والتخطيط فضلاً عن تشييد أية مشاريع حقيقية فاعلة تنتشلنا مما نحن فيه من وضع مأساوي.. فالجلسات تلو الجلسات تُستهلك في مشاهد الصراخ والحركات البهلوانية والمواقف الاستفزازية من جميع الأطراف لتنتهي دورة وتبدأ دورة، بينما تتسارع عجلة الانحدار في المشهد العام.. ولتطغى اللغة الطائفية الصادرة من هذا النائب وذاك، والمشحونة بالكثير من الطاقات الهدّامة لأسس التعايش والمحبة التي نص عليها الدستور في مادته السابعة حيث قال: (العدل والحرية والمساواة دعامات المجتمع، والتعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين). وما إقرار قانون تغليظ العقوبة على المتعرض للذات الإلهية والإساءة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وزوجاته، ورفض شمول القانون لأهل البيت والسيدة فاطمة الزهراء ابنة رسول الله إلا واحدة من الأمثلة التي تؤكد أن سن ذلك القانون إنما جاء كإفراز من الإفرازات الطائفية لا أكثر.
فهل يتوقع من أي شاب يتابع ذلك أن يكون متوازناً في تفكيره وسلوكياته؟ وأين هي مؤسسات المجتمع المدني التي فضّل بعضها الدخول في حالة من الغيبوبة، بينما انساق البعض الآخر منها في الحراك السياسي حتى طغى على طبيعة دورها المجتمعي؟
وإذا كانت هناك بعض المحاولات لضبط دور وسائل الإعلام والاتصال بالتقنين والمعاقبة فإن الواقع أثبت أن هذا الأمر لم يثمر بالصورة المطلوبة، وأن لبعض الأجندات الخاصة والرغبة في التكسب المادي الدور الكبير في صب الزيت على نار الفتنة، كما أن القانون عاجز عن التعامل مع قنوات فضائية تبث من خارج الكويت، ومع مواقع على الإنترنت يمكن الوصول إليها ولو حُجبت، بما يمثل جزء من ضريبة الانفتاح الاتصالاتي الحديث.
ولعل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ) النور:19، يقدم لنا قاعدة مهمة لا تخص فاحشة الزنا فحسب، بل تشمل كل ما يفسد طهارة الجوّ الذي يغمر المجتمع، فالله سبحانه يريد للإشاعات والكلمات اللاّمسؤولة أن لا تنطلق في الأجواء لأنها ستشكّل خطوةً سلبيّة، ويريد للكلمات أن تتحرك بحيث تكون خطوة تربويّة إيجابيّة، لأن الإنسان يتأثر بالمجتمع سلباً أو إيجاباً من خلال الفكرة التي يحملها عنه، أو من خلال الجوّ الذي يحتويه بفكره وروحه وحركته.
حقيقة المشكلة:
وكما ذكرت في مقالة سابقة بأن المشكلة لا تكمن في شخص المتهم بالتعرّض للإمام المهدي عليه السلام بسوء، (وهو الشخصية التي يؤمن بها جميع المسلمين وإن اختلفوا في مصداقها الخارجي) بقدر ما هي مشكلة مناهج وزارة التربية التي لم تنجح في تقديم هذه الشخصية بصورة يحترم فيها كل مسلم عقيدة الآخر، أعود لأقول هنا أن المشكلة لا تكمن في شخص المتهم بالتعرض بسوء للنبي صلى الله عليه وآله أو لأزواجه المكرَّمات، بقدر ما هي مشكلة كل المشهد الذي يعيشه المجتمع في الكويت وعلى كافة المستويات السياسية والثقافية والتربوية والإعلامية.. فهل سيتحمل عقلاء الوطن مسؤوليتهم في هذا الإطار، أم سنبقى نتفرج على مسرحية هزلية بإخراج ردئ؟ .. ولات حين مناص.