ماذا اختارت الزهراء ؟ مقال للشيخ علي حسن

لو خُيِّرت المرأة بين أن تقضي حياتها بين أبنائها الصغار وبين أن تكون مع أبيها، فمن دون شك أن الوضع الطبيعي للأمومة يقتضي أن تختار الكون بين أبنائها.. ولكن الزهراء عليها السلام في الأيام الأخيرة من حياة أبيها صلى الله عليه وآله ابتسمت حين أخبرها أنها أولُ أهلِ بيتِه لحوقاً به.. إذ سرعان ما ستكون إلى جانب أبيها لا بين أبنائها.
ابتسمت.. فهي ـ إذ تُخيَّر شعورياً بين الأمرين ـ قد فضّلت أن تكون مع أبيها.. خيارٌ ليس باليسير، فأبناؤها سيدا شباب أهل الجنة.. ومعهما العقيلة الحوراء زينب عليهم السلام أجمعين.. وأي أم لا تتمنى أن يكون أبناؤها الحسن والحسين وزينب.. وأن تكون بينهم.. تشمُّ ريحَهم.. وتتلمس خطواتِهم؟!! ولكن الزهراء ابتسمت في تلك اللحظة.. فهي في عين كونها أماً للحسن والحسين وزينب.. هي أم أبيها محمد صلى الله عليه وآله..
في تلك الابتسامة تجلّت دلالات كلمة النبي.. وهو الصادق المصدٌّق.. حيث وصف الزهراء بأنها أمُّ أبيها.. في تلك الابتسامة تجلّت مشاعر أمومتها للنبي في أقوى صورة معبِّرة عن كل تلك العلاقة العظيمة.. وفي تلك اللحظة ما كانت الزهراء تخير نفسها من حيث مشاعرها بين أن تكون ابنةً أو أماً.. بل بين مشاعرَ أمومتها للنبي وأمومتها لأبنائها.. فابتسمت وهي تختار مشاعرَ أمومتِها لأبيها وحبيبِ قلبِها ونورِ عينِها محمد.
ثم تفكَّر.. أيُّ قلب هذا الذي يستطيع أن يستوعبَ قلبَ رسولِ الله المحمَّلِ بمسؤولياتٍ بسعةِ أمة.. وهمومٍ بحجمِ الجبال.. حتى لكان يتأثر بالآية النازلة على قلبه في وعيٍ منه لدلالتها الكبيرة حتى قال: (شيبتني سورة هود).. شيَّبته بثلاث كلمات.. (فاسْتَقِم كَمَا أُمِرْت).. لمثل هذا القلب كانت الزهراء تُفيض من حنانها وعطفها ومشاعرها ما يعوّض أباها عن حنان وعطف ومشاعرِ أمِّه آمنة.. ورفيقةِ دربِه خديجة.. فيا لقلبِك مولاتي..
وها هنا رسالةٌ إلى كل أمٍّ ترى في الزهراء قدوةً.. ولكنها جعلت قلبَها أسيرَ همومَ الوظيفةِ والعمل.. حتى حوَّلت أجواءَ بيتها إلى ساحةٍ مكملةٍ لكل تلك الساعات الطويلة التي تقضيها بعيداً عن أبنائها..
ورسالةٌ إلى كل أمٍّ ترى في الزهراء أسوةً.. ولكنها وقعت أسيرةَ صالوناتِ التجميل، وتقاليع جراحات التجميل.. فما عاد يهمها أيُّ أمرٍ قبيح يمازج عقولَ أبنائها وأرواحَهم وجوارحَهم..
ورسالةٌ إلى كل أمٍّ ترى في الزهراء انموذجاً عظيماً.. ولكنها أضحت أسيرة الحفلات والولائم.. وجعلت أبناءها في مرتبةٍ متأخرةٍ في سُلَّمِ أولوياتِها..
فالأمومةُ ليست مجردَ نسب.. ولا محضَ عنوان و صِفة.. بل حقيقةٌ تستوجبُ الكثيرَ من التضحية والصبر حتى ترتقي الأمومةُ إلى مراتبَ تكون فيها الجنة تحت أقدامها.