مُذكّرات مُراهق ـ الجزء الثاني

حينما تبتعد عن مرحلة من مراحل عمرك، يمكنك أن تنظر إليها بشكل أوضح.. تكون عندها كأنّك تشاهد فيلماً عن شخص آخر وإن كان الفيلم من بطولتك أنت، وأقول آخر لأنّك وإن كان الفيلم من بطولتك أنت، وأقول آخر لأنّك تكون قد غادرته إلى مرحلة أخرى أكثر نضجاً، فيكون ذلك الذي كُنتَهُ في سنِّ الـ(12) وكأنّه غير الذي أصبحته في سن الـ(20)، وهكذا تتغيّر المراحل كما تتغيّر النظرة إلى الحياة بمقدار ما تكتسب فيها من علم ومعرفة وخبرات وتجارب وأخطاء وتصحيح لتلك الأخطاء.
وقد تضحك اليوم ممّا كنتَ تراهُ بالأمس عدا أنّه (الحقيقة) وأنّه (الثابت) الذي لا يتغيّر.. وضحكة اليوم أو ضحكة النّضج التي تجعلك تتراجع أو تنقد بعض ما كنتَ تفعله حينها، هي (ضحكة الوقار) وليست ضحكة استخفافية؛ لأنّها تجعلك تبتسم للحاضر الذي يُمثِّلك وتحمد الله على أنّك لم تبقَ على ما أنتَ عليه من طفولة.
تلك هي قصّتنا – نحن المراهقين – إلا الذي بقي يراوح في مكانه طويلاً، أي لم يستفد من سنوات عمره اللاحقة ليطوِّر (معدن المراهقة) إلى (صناعة إنسانية). فالحديد في باطن الأرض لو لم يُستخرج، ويؤخذ إلى المصاهر ليُصهر وتُصنع منه الآلات والأدوات النّافعة والمفيدة، يبقى كما هو حديد في مادّته الأوّلية حتى لو نامَ تحت الأرض سنين طويلة.. فلابدّ لمادّتنا الأوّلية من أن تتطوّر.
إنّ الأسرة والتعليم وعقل الإنسان نفسه، تساعده على أن لا يبقى (مادّة أوّلية)، بل تحوّل (حديده) و(ذهبه) و(ماسه) وسائر معادنه الثمينة والنفسية إلى منتجات حياتية نافعة.. فكلّ مولود جديد.. ومراهق جديد.. وشاب جديد.. إضافة نوعيّة إلى الحياة.
في مرحلة الدِّراسة المتوسِّطة، كان زملائي في الدراسة مراهقين مثلي، وعندما تكون في جوٍّ مقارب للجوّ الذي أنتَ فيه، فقد لا ينفعك ذلك كثيراً في تطوير مواهبك، فكلّما كان هناك مجال للمقارنة أو المنافسة بين (الحسن) وبين (السيِّئ) أو بين (الحسن) وبين (الأحسن)، كان ذلك عاملاً مساعداً على نموّك أكثر.
تعلّمتُ ذلك من جدّتي التي كانت تحبّني كثيراً وأبادلها حبّاً بحبٍّ.. كانت تقول لي: صاحب مَن هو أكبر منك (عقلاً) وأكثر منك (أدباً)، حتى تتعلّم من الأوّل فكراً ومن الثاني سلوكاً.
اليوم وقد عبرتُ مرحلة المراهقة أتذكّر كلامها وأستعيد علاقاتي فأرى أنّها على حقٍّ، فلقد كانت علاقاتي – إلى حدٍّ ما – مختارة.. اخترتُ الأكثر ذكاءً والأكثر أدباً، وقد لا يجتمعان في مراهق.. فكنتُ أصاحبُ هذا وأصاحبُ هذا، فماذا جنيتُ من ذلك؟
كان (الأكثر ذكاءً) من حيث لا يعلم، يفيض عليَّ بذكائه من خلال لفتاته البديعة، وعقله اللّمّاح، وقدرته على التعامل، وعلى تحقيق الفوز، وتغلّبه على المشاكل، وموقعه المميّز بين الزملاء.
وكان (الأكثر أدباً) يُساعدني على أن أتأدّب بأدبه، وأتخلّق بأخلاقه، وكان لابدّ أن أكون متأدِّباً معه على الأقل حتّى ينجذب إليَّ وأنجذب إليه، وقد أدّى ذلك إلى أتأدّب مع غيره.
فالعدوى إيجابية أيضاً، وقد تأكّد لي بالفعل أنّ الطّبع يأخذ ويستلهم من الطّبع، ولا أقول (يسرق) لكراهيّتي للسّرقة، ولأنّ الأخذ هنا هو كاستنشاق الوردة الزكية.. هي (تفوح) وأنت (تستمتع).