الأثر الدنيوي للنية الصالحة ـ الشيخ علي حسن

(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين) الأنعام:161-163.
عادة ما يتم الحديث عن قيمة النية في العمل أنها تنفع المؤمنين في يوم القيامة، باعتبارها من شرائط قبول الأعمال، وأن مستوى قيمة العمل في الآخرة يتوقف على النية، ففي الحديث النبوي: (إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى) وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة).
النية وتعزيز العمل:
إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فللنية الصالحة الدور المهم على المستوى الدنيوي أيضاً، فهي عنصر أساس في تعزيز العمل ورفع مستوى نوعيته والإبداع فيه وتحمل المصاعب والصبر على التحديات، كما وتؤثر في شخصية العامل إيجاباً وتقوّي فيه الدافعية والعطاء واستشعار لذة ذلك.
النية الخالصة لله:
وإذا كانت النية الصالحة لله وحده فإن نتائج ما سبق تتضاعف لأن:
1. الله محيط بالسر وما هو أخفى، ولأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة، لا في ليل ولا في نهار، فلا يخشى الإنسان ضياع عمله لو جاء به في الخفاء، ولن يتوقف عند حدود الأعمال التي سيُمتدح عليها لاحقاً من قبل الناس، ومن هنا يكون عطاؤه مستمراً، سواء أكان مشهوراً أو خافياً: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة:274.
2. الله لا يظلم الناس شيئاً، فإن العامل لن يقلق بشأن مردود عمله الصالح، فهو محفوظ له لا محالة، ولن يهمه لو أخطأ الناس تقييم عمله جهلاً منهم أو عناداً أو حسداً، وقد قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: (يَا هِشَامُ، لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ).
3. الله وعد من يعمل لوجهه أن يسدده ويبارك في عمله ويضاعف آثاره: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) البقرة:261.
4. من يعمل لله يحب أن يتخلق بصفاته، فالله بديع السماوات والأرض، فيتوجه الإنسان نحو الإبداع، ولأن الله جميل، فيصبغ الإنسان عمله بما هو جميل، ولأن الله أتقن كل شئ صنعاً، فيندفع الإنسان نحو الإتقان، وفي الحديث النبوي: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه).
قصور الخطاب الديني:
وللأسف فإن طرح مثل هذه العناوين الأخلاقية والشرعية في خطابنا الديني يتم بصورة قاصرة، من خلال الاكتفاء بالبعد الأخروي وإهمال الجانب الدنيوي المتعلق بها، أو من خلال التركيز على البعد الشرعي البحت في تصحيح صورة العمل كالصلاة أو الصوم، مما أفرغ هذه العناوين القيمية من جانب مهم من عطاءاتها المقصودة أصلاً في الشريعة الإسلامية، وانعكس بالتالي سلباً على منجزات الإنسان المسلم الذي لم يعد يفكّر إلا في جسد العمل ونسي روح العمل، فحدَّق في جانب من الصورة وغفل عن اللوحة بأكملها فغاب عنه المعنى، فلم يخرج من عمله إلا بالقليل، أو حدّق في ظاهر العمل وأغفل النية، بينما يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: (قيمة المرء ما نوى).
التقييم السليم:
إن تقييمنا للآخرين لا ينبغي أن يتوقف عند ظاهر العمل، لأن القيمة لا ترتبط بالعمل فقط، بل بالنية، لا بمعنى الاكتفاء بحسن النية وإن لم يعمل الإنسان، أو أن يأتي بما هو سلبي.. بل بمعنى أنه لا يكفي للحكم على العمل بالصلاح من خلال نوعه، بل لابد من اعتبار الدافعية أيضاً، الأمر الذي يغيب عن الكثيرين عند تقييمهم لمواقف السياسيين، فتجرّهم التصريحات عاطفياً، وينخدعون ببريق الشخصية، وبالعناوين والشعارات التي تدغدغ مشاعر الجماهير الموالية لدينها والمحبة للعدالة والمتشوقة للتنمية والمتعطشة للحرية، ليتبين لهم في نهاية المطاف أن المسألة لا تعدو أن تكون واجهة لتحقيق منافع شخصية أو فئوية لا تحقق سوى المزيد من التراجع والتخلف والتشرذم والانحراف عن الفطرة الإنسانية السليمة والدين القويم.