مودة من الله

قال الله عزوجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) مريم:، هذا الوعد الإلهي المقدّم كجائزة للمؤمنين ملفت للنظر، لاسيما وأننا نعلم أن الله حينما يمتن على أحد من عباده بشئ، فلا بدّ أن يكون ذلك الشيء عظيمًا.. وكأن الله عز اسمه يقول: لا تعتبروا وجود حالة الود والمحبة لكم في قلوب الناس أمراً بسيطاً.. فهي نعمة إلهية عظيمة تأتي كجائزة مهداة من الله لصفوة عباده.
ويمكن تصور هذا الجعل الإلهي بنحوين:
الأول: الجعل الغيبي: أيّ أن الله سبحانه وتعالى سيجعل القلوب منجذبة إليهم، بتدخل غيبي، تماماً مثلما تتدخل يد الغيب لتدفع عنك بلاءً أو لتطيل عمرك أو لتعطيك رزقاً لك تكن تتوقعه وأمثال ذلك. وهناك روايات تؤيد هذا المعنى: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أحب اللّه العبد نادى جبرائيل إن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبه جبرئيل، ثم ينادي جبرئيل في أهل السماء: أن الله قد أحب فلانًا فأحبوه، فيحبُّه أهلُ السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض). وما حب الله لعبد لعباده إلا لأنه يستحق المحبة، لصفاء قلبه، وطهارة نفسه، ولسلامة عمله.. هذا هو التأثير الغيبي، حيث يجعل الله سبحانه له جاذبية فتنجذب نحوه القلوب والنفوس في الأرض.
الثاني: النحو الآخر الذي يمكن أن نفهم به هذا الجعل: أن طبيعة الروحية العالية والنية الصافية، والطِّيبة والأخلاق الرفيعة والمصداقية والعطاء والعمل الصالح وخدمة الناس والتواضع كلها أمور تجعل الإنسان في موقعية المحبوب عند الناس، وفي الحديث: (جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها).
مؤمن غير محبوب:
وقد ترى إنساناً مؤمناً من أهل المساجد وآثار العبادة بادية عليه، إلا أن النفوس لا تنجذب إليه، بل قد تجد الناس يتحاشون الاختلاط به والتعامل معه، فكيف يمكن التوفيق بين الآية وبين هذه الحقيقة العملية؟
والجواب واضح، فالإيمان الحقيقي حين يقترن بالعمل الصالح يفترض بذلك أن يتحقق التغيير في الشخصية بالمستوى الذي يزرع فيها دماثة الخلق والطيبة والسمعة الطيبة وصفاء الروح وصدق النيات وخدمة الناس وغير ذلك، ومشكلة البعض أنهم يتعاملون مع الإيمان والعبادة في بُعدها الفردي الذي يريدون من خلاله أن يضمنوا الجنة وكفى، وأما البعد الاجتماعي من الإيمان والعمل الصالح فهو غائب عنهم، الأمر الذي ينعكس لاحقاً على موقف الناس منهم.. مع ملاحظة أننا نتحدث عن تقييم الناس انطلاقاً من فطرتهم ودون مؤثرات سلبية قد تجعلهم يتحاشون المؤمن الصالح دون وجه حق، كما تحاشى الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين دعاهم إلى الحق بما تعارض مع عقيدتهم الشركية، وكتحاشي الناس لأبي ذر الغفاري حين أمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، فصدرت الأوامر بسجن كل من يجالسه.
نتائج مستفادة:
فالآية في نفس الوقت الذي تستعرض فيه المنّ الإلهي بهذه النعمة:
1. تقدم لنا الصورة الصحيحة للمؤمن الذي يعمل الصالحات
2. تقرر أن تغلغل مودته في قلوب الناس يغدو معياراً من معايير التقييم لديه عن إيمانه وعمله الصالح
3. تدفع الإنسان المؤمن لكي يطلب مودة الآخرين بما يوجبها، وفي الحديث النبوي: (رأس العقل: الإيمان بالله والتودّد إلى الناس) كل الناس، لا للمؤمنين فقط.. لا بشكل مصطنع بحيث تحمل الكراهية في نفسك وتصطنع المودة.. لا بشكل مصلحي بحيث تسعى من ورائه لنيل أصواتهم الانتخابية مثلاً..
وعندما تتحقق هذه المودة تكون بمثابة من اكتسب قرابة جديدة، أي أنك أضفت رصيداً في أقربائك الذين هم عضدك في الحياة، فعن الإمام علي عليه السلام: (المودة قرابة مستفادة). وفي نص آخر: (المودة أقرب رحم).
هذا هو أحد الكنوز التي يبحث الإنسان المؤمن عنها في حياته ليضيفها إلى رصيد ممتلكاته، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (أنفع الكنوز محبة القلوب).