كفئ الظل

(ألا إن الدنيا دارٌ لا يُسلم منها إلا فيها، ولا يُنجى بشئ كان لها. ابتُلي الناس بها فتنة، فما أخذوه منها لها أخرِجوا منه وحوسبوا عليه، وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه، وأقاموا فيه، فإنها عند ذوي العقول كفئ الظل، بينا تراه سابغاً حتى قلص، وزائداً حتى نقص).
في هذه الخطبة المقتضبة، أو في هذا المقطع من خطبة لأمير المؤمنين علي عليه السلام ـ باعتبار أن الشريف الرضي كان عادةً ما يجتزئ الخطب ـ يقوم الإمام بأسلوبه البلاغي الفصيح المقتضب غير المخل بالمعنى، وبعمق الفكرة، وبتقديم الصورة الحسية التي ترسّخ المعنى في الذهن، بالحديث عن علاقة الإنسان بالدنيا والآخرة.
فهو يؤكد أن (الدنيا دارٌ لا يُسلم منها إلا فيها)، فمن أراد السلامة في الاخرة فعليه أن يقدّم لآخرته ما ينجيه من عاقبة السوء، فلا نجاة من مصير الآخرة إلا بالعمل في العاجلة، ولا مجال في الآخرة لأي عمل يعدّل من خلاله الإنسان أوضاعه.. حتى ما هو من قبيل الشفاعة إنما يتحقق من خلال ما قدّمه الإنسان في الدنيا.. أما الأعمال التي يقوم بها الإنسان ولا يريد بها إلا الدنيا، فلا قيمة لها في الآخرة، حيث (لا يُنجى بشئ كان لها)، فما كان رياءً فلا قيمة له، وما كان لرئاسة فلا قيمة له، وما كان لله أو لمطلق الخير فنتاجه سيكون حاضراً في ذلك اليوم العصيب.. فالدنيا في نهاية المطاف هي دار الاختبار إذ (ابتُلي الناس بها فتنة).
ويذكّر الإمام عليه السلام بأن قيمة ما يقدّمه الإنسان في الدنيا للدنيا سيكون حصاده الإيجابي محصوراً فيه، فمن سعى للرئاسة لأجل الرئاسة فقد ينجح ويترأس، ولكنه سيكون محاسباً أمام الله على الموقع المتقدم الذي ناله، كيف شغله؟ وهل وظّفه للخير أم الشر؟ ومن عمل لجمع المال حباً للمال فلن يكون مردوده إلا في الدنيا، ومحاسَب عليه في الآخرة، من أين اكتسبه؟ وفيما أنفقه؟ (فما أخذوه منها لها أخرِجوا منه وحوسبوا عليه).
أما الذين أدركوا حقيقة وجودهم، وأن الدنيا دار اختبار وعمل، فسيسعون لتوظيف طاقاتهم وإمكاناتهم استعداداً للآخرة للحصول على الجوائز الإلهية (وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه، وأقاموا فيه) لأن توصلوا بالأدلة والتفكير إلى أن حال الدنيا (كفئ الظل، بينا تراه سابغاً) ممتداً وتاماً وقد بلغ ذروته، إذا به يتقلص وينقص حتى يزول.
وقد تناول الشعراء هذه الصورة الحسية:
ألا إنما الدنيا كظل غمامة أظلّت يسيراً ثم خفت فولت
وقال آخر :
ظل الغمام ، وأحلام المنام ، فما تدوم يوماً لمخلوق على حال