وقفة مع ابن خلدون في مقدمته - (3 من 3) - الشيخ علي حسن

كانت لنا في المقالتين السابقتين إطلالة على نظرية ابن خلدون حول علاقة العصبية بنجاح الدعوات وقيام الدول، والتي اعتبر فيها أن جميع الدعوات بما فيها دعوات الأنبياء إنما تنجح بالاعتماد على العصبية، ثم أسقط هذه النتيجة على دولة الإمام المهدي المنتظر، معتبراً أنه سيظهر ـ إن كان لظهوره حقيقة وفق ابن خلدون ـ في مناطق قوة ونفوذ البيت العلوي وإلا فسيفشل في تحقيق غايته، ولن يكون مجرد انتسابه لأهل البيت كافياً.
وبما أن قوة ونفوذ آل علي بل وقريش أجمع قد تلاشت وتغلبت عليها عصبيات أخرى في زمن ابن خلدون (القرن الثامن الهجري) فلن يتحقق الظهور إلا في مناطق تحتضنهم في مكة وينبع، قال: (فإنْ صحّ ظهور هذا المهدي، فلا وجه لظهور دعوته إلا بأن يكون منهم ويؤلٍّف الله بين قلوبهم في اتّباعه حتى تتم له شوكة وعُصبة وافية بإظهار كلمته وحَمْل الناس عليها، و أما على غير هذا الوجه مثل أن يدعو فاطمي منهم إلى مثل هذا الأمر في أفق من الآفاق من غير عصبية ولا شوكة إلا مجرد نسبةٍ في أهل البيت، فلا يتم ذلك ولا يمكن).
حقائق غائبة:
وقد غابت عن ابن خلدون عدة حقائق:
1. أن الله سبحانه لن يدّخر أملَ البشرية الذي تنتظره الأمم لخلاصها، لينهض من خلال مبدأ وشعار يتعارض مع المنهج الإلهي الذي يحارب العصبية. فقد ألغى الإسلام العصبية واستبدلها بالاستقامة في الحق والالتزام بالتقوى كما تبيّن من خلال المقال السابق.
2. العصبية العشائرية تستدعي نصرة الظالم وتقوية مواقع الظلم، كما اتضح في المقال السابق، فكيف ينطلق المهدي المنتظر من عنوان الظلم ليقيم العدل، وقد تواتر في كتب المسلمين الحديث النبوي الذي يتضمن هذه العباره: (يَمْلأُ الأَرْضَ ‏‏ قِسْطًا وَعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وظلماً)؟
3. أقر ابن خلدون في الفصل الثالث من مقدمته بأن بعض الدعوات نجحت في مشروعها وقامت من خلالها دول دون الانطلاق من مبدأ العصبية العشائرية، وبتعبيره: (انقياداً لما استحكم له و لقومه من صبغة الغلب في العالم وعقيدة إيمانية استقرت في الإذعان لهم، فلو راموها معه أو دونه لزلزلت الأرض زلزالها) وضرب على ذلك مثال قيام دولة الأدارسة في المغرب ثم قيام الدولة الفاطمية، العبيديين وفق تعبيره.. أليس الأولى بالإمام المهدي الذي ستقوم دولته وفق تخطيط إلهي تنتظره البشرية، وتتنتهي عنده مسارات الحضارات البشرية طوال التاريخ أن يكون ضمن هذا الاستثناء؟
دولتان علويتان:
ـ والملفت للنظر أن المثالين الذين ضربهما ابن خلدون يرجعان إلى قيادة تنتمي إلى الأسرة النبوية العلوية، فأولاهما تحققت على يد الثائر إدريس حفيد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام القادم وحيداً من المدينة المنورة إلى بقعة من الأرض تخلو من عشيرته، فلما عرف أهل تلك البلاد أنه من نسل رسول الله وعلي وفاطمة نصروه على ظلم العباسيين. والثانية دولة الفاطميين التي تكرر فيها المشهد من خلال نصرة أهل تلك الأصقاع لرجل من آل البيت.
وأعتقد أن السبب في ذلك هو ما رسخته العقيدة الإسلامية من قيمة كبرى للولاء لآل البيت ولمحبتهم، بحيث يكون عاملاً مهماً في نجاح دعواتهم وقيام دولهم، والأمر الآخر هو تجذّر المهدوية في العقيدة الإسلامية، هذا الأمر الذي لم يأت من فراغ، بل من خلال نصوص حفظها المسلمون، وورّثها كل جيل لما يليه من أجيال.
الأحاديث المهدوية:
أما اهتمام المسلمين الشيعة بأحاديث المهدي فذلك واضح، وأما عند المسلمين من أهل السنة فقد نقل ابن حجر العسقلاني عن كتاب مناقب الشافعي: (تواترت الأخبار بأن المهدي من هذه الأمة، وأن عيسى يصلي خلفه). وأضاف ابن حجر نفسه في شرحه لصحيح البخاري: (وفي صلاة عيسى خلف رجل من هذه الأمة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال أن الأرض لا تخلو عن قائمٍ لله بحجة). وأما عند السلفية فقد قال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة النبوية ج8: (إن الأحاديث التي يُحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود و الترمذي وأحمد و غيرهم من من حديث ابن مسعود و غيره).
منهج التربية الإسلامية:
وبالتالي أعتقد أن جزء من المشكلة التي تطالعنا من حين لآخر في الإساءة إلى الإمام المهدي يعود إلى غياب دور مناهج التربية الإسلامية في تأصيل قضية المهدوية وعرضها بصورتها العامة المتفق عليها، مع التأكيد ضمناً على وجوب احترام القراءات المختلفة للمذاهب الإسلامية لهذه القضية، تلك القراءات التي لا تنفي أصل المسألة بل تؤكد أصالتها، وبما يرسّخ بالتالي مبدأ احترام الرأي الآخر الذي هو من الأهداف التربوية للمناهج المدرسية.
وقد صدرت ـ قبل سنتين ـ وثيقة عن وزارة التربية تحت عنوان (استراتيجية تكريس مفاهيم المواطنة والولاء والانتماء لدى النشء في المناهج الدراسية بدولة الكويت) والصادرة عن لجنة إعداد خطة استراتيجية متكاملة لتكريس مفاهيم المواطنة والولاء والانتماء لدى النشء في مناهج وزارة التربية. ومما جاء فيها ما يلي: (يواجه المجتمع الكويتي الحالي مجموعة من التحديات الاجتماعية والفكرية والسياسية والإقليمية منها والعالمية والتي تهدد ثوابتنا الوطنية وهويتنا الثقافية وتزعزع قيم المواطنة والولاء والانتماء للوطن.. الاستراتيجة تأخذ بعين الاعتبار التأكيد على قيم الحوار وحقوق الإنسان والاتجاه لاحترام الرأي الآخر لدى النشء، واللجوء إلى الوسائل الديمقراطية لمعالجة الخلافات في الرأي وتعارض المصالح، وهو ما يمكّن الأبناء في المستقبل من علاج أهم مظاهر الخلل في الممارسة السياسية في المجتمع) ثم تذكر الوثيقة مواصفات المواطن الصالح، ومنها: (نبذ التعصب بأشكاله كافة، الإيمان بالتعددية الاجتماعية، احترام معتقدات الآخرين).
خلل استراتيجي:
وعليه فإن الخلل في منهج التربية الإسلامية ليس فقط في المفردات المتفرقة هنا وهناك، بل في استراتيجية المنهج الذي يفترض أن يُعتمَد في مجتمع يعيش تعددية مذهبية.. ليحقق مجتمعاً يفهم معنى التعدد المذهبي ويحترم الرأي الآخر. ولو تم عرض القضايا المختلف فيها بصورة تعكس احترام الآراء المتنوعة لساهم منهج التربية الإسلامية في بناء جيل يحترم الآخر ولا يعيش الازدواجية في النظرة، فهو مطالب من خلال مادة التربية الوطنية أن يعيش مفهوم المواطنة الصحيحة، في حين أن الطالب السنّي يُدفع من خلال منهج التربية الإسلامية نحو ازدراء الآخر المشترك معه في المواطنة والمختلِف معه في المعتقد، ويُدفع الطالب الشيعي ليعيش مرارة الشعور بالتهميش وترسيخ عقدة المواطنة الناقصة.. فهل يتوافق هذا مع تلك الأهداف الاستراتيجية؟