وقفة مع ابن خلدون في مقدمته - (2 من 3) - الشيخ علي حسن

قدّمت في الأسبوع الماضي ملخصاً لنظرية ابن خلدون التي طرحها في مقدمته حول العلاقة بين العصبية العشائرية وبين نجاح أية دعوة، بما فيها دعوات الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك أكثر من نقطة تحتاج إلى مناقشة، وأقتصر هنا على مناقشة مفهوم العصبية وعلاقة ذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
مفهوم العصبية:
العصبية في اللغة العربية تأتي من كلمة (العَصَب) وهو ما يعرف اليوم بالرباط كذلك الذي يربط مثلاً بين مفاصل الجسم، ولذا سمى العرب قَرَابة الرجُل لأبيه وبني عمِّه (عَصَبة) لأنهم يرتبطون به ويستديرون حوله ويلتزمون به.
وإذا أردنا أن نبحث في دلالة العصبية من الناحية المفهومية فهي تمثل حالة من الارتباط الدائم بالشئ، وعلى كل حال، وهي تستدعي أن يرى الإنسان القيمة كل القيمة في هذا الشئ، فيصطدم مع كل ما يتصادم به، وينجذب إلى كل ما ينجذب إليه، بغض النظر عن معيار الحق والباطل، والعدل والظلم، وكل القيم والمبادئ الأخرى.
والعصبية ـ في حقيقتها ـ حالة شعورية متطرفة تلغي دور العقل، وتترتب عليها سلسلة من الأحكام والمواقف لا يسوّغها إلاّ كونها نابعة من الشعور بالارتباط المحدَّد بالعشيرة أو القوم أو الوطن أو الدين أو المذهب أو الحزب أو غير ذلك.
وليس الحديث هنا عن مجرد حب الإنسان لقومه وأهله أو لغيرهم، وهذا ما أكده الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام بقوله: (وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن العصبية أن يعين قومه على الظلم).
العصبية في القرآن والحديث:
ومن يتتبع آيات القرآن ومواقف النبي وأحاديثه يجد موقفاً صارماً واضحاً في رفض العصبية، ومن ذلك:
1. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة:8. فالموقف ـ إسلامياً ـ ينبني على أساس مبدأ العدل.. أي لو كان الحُكم العدل لصالح قوم يختلفون معي في الانتماء العشائري أو القومي أو الديني أو المذهبي أو الحزبي، فيجب أن أميل معه.. فهل يتناسب هذا مع ترسيخ العصبية العشائرية والاعتماد عليها من قبل النبي في دعوته؟
2. (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) الفتح:26. نلاحظ هنا المقارنة بين الصورتين، صورة العصبية والانفعال الشعوري الذي يدفع الإنسان لاتخاذ الموقف والإقدام على فعل مبتني على نصرة العنوان أو الشخص دون مراعاة للحق والعدل، وهي صفة جاهلية.. وفي المقابل صور السكينة التي تفسح المجال للتفكير واتخاذ القرار الصائب المعتمد على التقوى.. والعدل من التقوى كما لاحظنا في الآية الأولى. فالمؤمنون أهلُ التقوى وعشيرتها، أي أن رباطهم هو التقوى، وبالتالي العدل والحق، لا العشيرة ولا القوم ولا أمثالهما.
3. في الحديث النبوي: (مَنْ قاتَلَ تحتَ راية عِمِّيَّة) دون تفكير ولا عرض على المبادئ والقيم بل (يَغْضَبُ لعَصَبَةٍ أَو يَنْصُرُ عَصَبَةً أَو يَدْعو إلى عَصَبَة فقُتِلَ، قُتِلَ قِتْلَةً جاهلِيَّةً).
4. وفي حديث آخر: (مَن تعصَّبَ أو تُعصِّب له فقد خلع ربقة الإيمان عن عنقه) أي انفصل عن المبادئ الإسلامية، لأنه التزم بالرباط الذي ألغاه الإسلام والتزم بالرباط الذي أسسه الشيطان وعملت به الجاهلية. ولذا انتصر النبي لليهودي المظلوم حين اتهمه بعض المسلمين بالسرقة زوراً، وهم يتوقعون أن النبي سيتعصب لهم، كما حكته الآيات 105 فما بعدها من سورة النساء.
5. وقد اعتبر أمير المؤمنين علي عليه السلام أن العصبية منهج شيطاني، إذ قال في الخطبة (القاصعة) الواردة في نهج البلاغة حول موقف إبليس: (اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه، وتعصَّب عليه لأصله. فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية) وماذا كانت النتيجة؟ (أحبط عملَه الطويل وجَهْده الجهيد... فاحذروا عبادَ الله أن يَعديَكم بدائه، وأن يستفزكم بندائه، وأن يجلب عليكم بخيله ورَجله). ومن أخطر نداءاته النداء بالعصبية، فاستجاب له من لديه الاستعداد لذلك (صدَّقه به أبناءُ الحميِّة، وإخوانُ العصبية ، وفرسانُ الكِبر والجاهلية). وما هي النتيجة؟ (فأصبح أعظمَ في دينكم جرحاً، وأورى في دنياكم قدحاً من الذين أصبحتم لهم مناصبين وعليهم متألبين).
التزام واستقامة:
فهل يمكن بلحاظ ما سبق ـ وغير ذلك كثير ـ أن نقول بأن النبي اعتمد على العصبية العشائرية في نهوض مشروعه ونجاح دعوته وتأسيس دولته؟ وكيف يكون ذلك وقد نزل قوله تعالى في العهد المكي: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) المسد:1، وهي تخص عمّه؟ أيتوافق ذلك مع مَن يريد الاعتماد على العصبية العشائرية؟
والصحيح أن يقال أن الإسلام ألغى العصبية واستبدلها بمفهوم آخر وهو الاستقامة والالتزام بالتقوى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) هود:112، أي أنه أنشأ رباطاً لا علاقة له بالأشخاص ولا بالعناوين كالعشيرة والقوم واللون، بل بالتقوى والحق والعدل والقيم السامية والمبادئ الأخلاقية، وبمقدار التزام الآخر بذلك فأنت تستقيم معه وتلتزم منهجه وتنصره وتدافع عنه.
ونحن إنما نتولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على طول الخط ونلتزم منهجه ونستقيم في اتباعه لا تعصباً له، بل لأنه الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي، ونتولى علياً عليه السلام على طول الخط ونلتزم منهجه ونستقيم في اتباعه لا تعصباً له، بل لأن علياً مع الحق والحق مع علي، يدور معه حيثما دارن كما قال رسول الله. فاستقامتنا في نهج النبي وآله ناشئة من ذلك، وليست هي عصبية قائمة على انتمائهم للبيت القرشي أو البيت الهاشمي أو البيت العلوي.
خطورة العصبيات:
إنَّ العصبيات تُنسينا فكرَنا ومبادءنا وقيمَنا وكلَّ الوعي الذي نحمله، فيتحول المثقف البارز والمتدين التقي والباحث الخبير في الشأن السياسي وغير هؤلاء ممن يتحلَّون بالوعي والمسؤولية، إلى أسرى للخطاب الغرائزي العاطفي الانفعالي، فتغيب الحكمة، ويستحكم الإنفعال، وتنعدم لغة التهدئة، فيرتفع ما أنعم الله به على عباده من السكينة وهدوء الفكر التي هي من أسس حفظ وتنمية المجتمع الذي يعيش التنوع المذهبي والعشائري والقومي والحزبي. إن علينا أن نتذكر دائماً أن إمام المتعصبين هو إبليس الرجيم، وأن إمام المستقيمين في الحق هو رسول الله، فأي الإمامين نتولى؟ وعلى أي النهجين نسير؟