الأبعاد المعنوية في الجهاد عند أمير المؤمنين (ع)... القسم الثالث - ليلة 21 رمضان 1445


- ذكرت في الليلتين الماضيتين أن للقتال بعضَ القواعد والمبادئ العامة التي يطبقها الجيشان المتقابلان في الحروب؛ مثل استخدام التقنيات العسكرية، وحفظ الأسرار، وأسس اتخاذ القرارات وتنفيذها... إلخ، وأن الأمر -في الإسلام- لا يقف عند هذا الحد، إذ لا بد للمقاتلين المسلمين من أن يلتزموا بمجموعة من الأحكام والأخلاقيات والآداب الخاصة، وهو ما انعكس في كلمات وسيرة أمير المؤمنين علي (ع) ضمن سيرته العسكرية.
- واستعرضت معكم مجموعة مما جاء عن علي (ع) في هذا المجال، وقد ذكرت (الإخلاص، وتجاهل التحيزات العرقية والقومية، وعدم البدء بالقتال، الدعاء والمناجاة، النداء بشعار النبي في الحرب، الامتناع عن السب، حقن الدماء ما أمكن).
- وأكمل عرض مجموعة أخرى منها:
8. التضحية والإيثار: من الخصوصيات المفترضة عند المقاتل المسلم امتلاكه روحية التضحية والإيثار، ومساعدة سائر المقاتلين في صفه.
- الناس متفاوتون من حيث القدرات الجسمانية، ومن حيث الشجاعة والقوة المعنوية.
- بل إن نفس المقاتل من ظرف إلى ظرف تحتلف قواه المعنوية.
- في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)).. ليست المسألة مسألة انكشاف ما كان خافياً على الله.. بل الآية الأولى بمثابة الوصف لقمة ما يمكن بلوغه من قوة معنوية مؤثرة على النتائج، والثانية وصف لحال المسلمين فعلياً في أجواء معركة بدر الكبرى.. ولذا يقول العلامة الطباطبائي أن الآيتين نزلتا دفعة واحدة.
- ولذا قد يتعرض بعض المقاتلين المسلمين إلى:
أ) حالة من الضعف أو التردد أو الخوف عند مواجهة العدو.
ب) ولربما أصيب أحدهم بجراحة.
ج) ولربما أراد العدو أن يباغت أحد المقاتلين.
- من هنا، كان امتلاك سائر المقاتلين المسلمين لروحية التضحية والإيثار، ومن لديهم الشجاعة والثبات أن يسارعوا لنجدته.
- في الخطبة 122 من نهج البلاغة: (ومن كلام له عليه السلام قاله لأصحابه في ساحة الحرب بصفين: وَأَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَرَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلًا، فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ، كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ) ضع نفسك مكانه Put yourself in his shoes من الأساليب القرآنية الجميلة في حث الإنسان على اختيار السلوك الأنسب، وهو ما نجده في قوله سبحانه حول رعاية حقوق اليتامى: [وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً] [النساء:9] فعليك أن تتعامل مع حقوق يتامى الآخرين كما تحب أن يُعامل يتاماك من بعدك (إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ، لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ. إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ، وَالَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ).
9. أصالة السلام: كما ذكرنا سابقاً، فإن الإمام (ع) لم يكن باغي حرب وقتال وسفك دماء، بل كان -في المقام الأول- رجل سلام... نعم متى ما استدعى الأمر أن يقاتل، فإنه كان القائدة العسكري والمقاتل الشجاع الذي لا يُدانى.
- في غرر الحكم للآمدي، قال (ع): (وَجَدتُ المُسالَمَةَ -ما لَم يكن وَهنٌ فِی الإِسلامِ- أنجَعَ مِنَ القِتالِ).
- السنن الكبرى عن البراء بن عازب: (بعثني علي (رضي الله عنه) إلى النهر إلى الخوارج، فدعوتهم ثلاثاً قبل أن نقاتلهم).
- ورسل الإمام في الحروب كلها قبل بدئها مثبتة في كتب التاريخ، وفي نهج البلاغة بعض نماذج منها.
- في كتابه إلى مالك الأشتر يقول: (وَلَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضًا).
- ثم يبين الإمام الفوائد الحاصلة: (فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وَأَمْناً لِبِلَادِكَ).
- ثم يحذّر من الإهمال والركون إلى الدعة والغفلة عن العدو المتربص، فالركون إلى المصالحة لا يعني التراخي: (وَلَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ، فَخُذْ بِالْحَزْمِ، وَاتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ).
- ثم يؤكد على أهمية الالتزام بالمواثيق شرعاً وعقلاً (وَإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً، أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً، فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ، وَارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ، وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ) أي دافع عن هذه المواثيق والاتفاقيات بكل ما أوتيت واحمها بنفسك، وفي هذا مبالغة في صيانة الميثاق.
- ثم يستشهد بالواقع الملموس بأن الناس على اختلاف انتماءاتهم متوافقون على حفظ المواثيق: (فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً -مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وَتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ- مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ).
- ثم يبين السبب الذي دعى الناس إلى ذلك من دون حاجة إلى توجيه ديني: (لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ).
- ثم يعود ويؤكد ما طبيعة الموقف المطلوب: (فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ).
- ويختم بالتحذير من مغبة نقض الميثاق، لأن المسألة ترتبط -في جانب منها- بالله: (فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ) أنت عندما تعطي ميثاقاً فإنما تجعل الله بينك وبينه (وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ، وَحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ، وَيَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ. فَلَا إِدْغَالَ، وَلَا مُدَالَسَةَ، وَلَا خِدَاعَ فِيهِ).
10. المعاملة الإنسانية للعدو: في مدرسة الإمام (ع)، وفي أجواء الصراعات الداخلية التي نشبت بين المسلمين، المبدأ هو المعاملة الإنسانية، بل مر معنا أنه نهى عن سب ولعن أعدائه، وأمر بالدعاء لهم بالهداية.
- في مدرسة الإمام، لا يشرع قتال هؤلاء الأعداء إلا من يصر منهم على القتال، وفي ميدان الحرب، لا خارجه، فإذا انتهت الحرب، أوصى بعدم الإجهاز على جريح، ولا ملاحقة هارب.
- وفي مناسبات عديدة، أوصى الإمام (ع) جيشه بهذه المبادئ الأخلاقية والإنسانية، وطلب منهم عدم دخول بيوت الناس، ولا نهب ممتلكاتهم، ولا قتل الأطفال والشيوخ والنساء.
- في الكتاب 14 من نهج البلاغة: (فَإِذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَلَا تُصِيبُوا مُعْوِراً وَلَا تُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحٍ، وَلَا تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذًى وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ).
- بعد حرب الجمل عفا عن الجميع، وبعد النهروان أمر بمداواة جرحى النهروان من الخوارج في الكوفة.
- وفي الكتاب 60: (ومن كتاب له [ع] إلى العمال الذين يطأ الجيشُ عملَهم: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَعُمَّالِ الْبِلَادِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَقَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ، مِنْ كَفِّ الْأَذَى، وَصَرْفِ الشَّذَا) الشر والأذى (وَأَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَإِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ) معرة الجيش: أذاه (إِلَّا مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ لَا يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَى شِبَعِهِ) يستثنى حالة الجوع المهلك فإن للجيش فيها حقا أن يتناول سد رمقه (فَنَكِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ شَيْئاً ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَارَّتِهِمْ وَالتَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ، وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ، فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ وَمَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا لَا تُطِيقُونَ دَفْعَهُ إِلَّا بِاللَّهِ وَبِي، فَأَنَا أُغَيِّرُهُ بِمَعُونَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ).
- وحتى عندما ضربه ابن ملجم أوصى قائلاً: (يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي، انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ، وَلَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ).
- في الكامل في التاريخ لابن الأثير: (قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: مَرِضَ عَلِيٌّ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، فَجَلَسْتُ عِنْدَهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ [ص] فَنَظَرَ فِي وَجْهِهِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا نَرَاهُ إِلَّا مَيِّتًا . فَقَالَ : " لَنْ يَمُوتَ هَذَا الْآنَ ، وَلَنْ يَمُوتَ حَتَّى يُمْلَأَ غَيْظًا ، وَلَنْ يَمُوتَ إِلَّا مَقْتُولًا " .
وَقِيلَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ : إِنَّ عَلِيَّا كَانَ يَقُولُ : مَا يَمْنَعُ أَشْقَاكُمْ أَنْ يُخَضِّبَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ ؟ يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ رَأْسِهِ .
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ : كَانَ عَلِيٌّ لَمَّا دَخَلَ رَمَضَانُ يَتَعَشَّى لَيْلَةً عِنْدَ الْحَسَنِ، وَلَيْلَةً عِنْدَ الْحُسَيْنِ، وَلَيْلَةً عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ، لَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثِ لُقَمٍ، يَقُولُ: أُحِبُّ أَنْ يَأْتِينِي أَمْرُ اللَّهِ وَأَنَا خَمِيصٌ، وَإِنَّمَا هِيَ لَيْلَةٌ أَوْ لَيْلَتَانِ، فَلَمْ تَمْضِ لَيْلَةٌ حَتَّى قُتِلَ .
وخسر الناس علياً، وفاز -وربِّ الكعبة- عليٌّ!
يا هادياً مَن للحــــيارى مرشدُ .... إن كـان بـــدرُك لا يَبين ويَبعُدُ
يا فانياً عن كل دهرٍ إنمـــــــــا.....فُنِيَتْ عِداك وأنـتَ أنتَ مـــخـلَّدُ
يا ذائقاً طعمَ المماتِ وإســـــمُه .....ما زال في ثغـــــر الحياة يُرَدَّدُ
يا ساجداً ولدتْكَ أمُّك ساجــــداً.....ورحلْـــتَ للباري وظلُّكَ يــسجـدُ
يا وراثاً بيت النـبوة حامـــــلاً .....ثِقل الإمامةِ حـيـنَ مات محمـــدُ
إنْ قيل من أهدى؟ لخلتـُـكَ أنه .....أو قيل:أزهدُ؟ قلتُ:حيدرٌ أزهــدُ
عَمِيَ الزمان ولن يراك مُجدداً .....كلا وهل حُبلى بمـثلِك تولِـــدُ؟!
يـا راحلاً هلاَّ رجعت للحــظة ..... هيهات يرجع للحياة موســَّـــــدُّ