الأبعاد المعنوية في الجهاد عند أمير المؤمنين (ع)... القسم الثاني - ليلة 20 رمضان 1445


- ذكرت في الليلة الماضية أن للقتال بعضَ الأسس والفقواعد والمبادئ العامة التي يطبقها الجيشان المتقابلان في الحروب؛ مثل استخدام التقنيات العسكرية، وحفظ الأسرار، وأسس اتخاذ القرارات وتنفيذها... وأن الأمر -في الإسلام- لا يقف عند هذا الحد، بل ولا بد للمقاتلين المسلمين من أن يلتزموا بمجموعة من الأحكام والأخلاقيات والآداب الخاصة، وهو ما انعكس في كلمات وسيرة أمير المؤمنين علي (ع) ضمن سيرته العسكرية.
- وأستعرضت معكم مجموعة مما جاء عن علي (ع) في هذا المجال، وقد ذكرت (الإخلاص، وتجاهل التحيزات العرقية والقومية، وعدم البدء بالقتال)... وأكمل عرض مجموعة أخرى منها:
4. الدعاء والمناجاة: المقاتل في سبيل الله لا ينقطع عن ذِكر الله تعالى، ويستمد العونَ منه تعالى في كل لحظة من لحظات القتال.
- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الأنفال:45].
- ومن شأن الارتباط الروحي بالله تعالى أن يعطي دفعة قوية لمعنويات هذا المقاتل.
- من هنا، بل ومن حيث أن علياً (ع) كان دائم الذكر لله تعالى، نجده (ع) -كما يروي الشريف الرضي في الخطبة 171 من نهج البلاغة- يقول: (ومن كلام له عليه السلام لما عزم على لقاء القوم بصفين: اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْجَوِّ الْمَكْفُوفِ، الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمَجْرًى لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَمُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ، وَجَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِكَتِكَ، لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ، وَرَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ، وَمَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَالْأَنْعَامِ، وَمَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَمَا لَا يُرَى، وَرَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً، وَلِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً، إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا، فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ، وَسَدِّدْنَا لِلْحَقِّ، وَإِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا، فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ، وَاعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ).
- المسألة عند علي (ع) -كما يتّضح من هذا الدعاء- لا تتوقف عند حدّ طلب المدد والقوة من الله تعالى، بل:
أ) تعظيم الله تعالى وتمجيده.
ب) طلب التسديد في الموقف والقرارات والأفعال عند الانتصار، على أن يكون ذلك كله مرضياً عنده سبحانه، ومتناغماً مع الحق الذي سعى لأن يكون قرينه في حياته.
ج) طلب الشهادة عند الهزيمة.
د) طلب التسديد في الموقف والقرارات والأفعال عند الهزيمة والبقاء على قيد الحياة، فالمهزوم قد يستسلم لإرادة العدو الباغي، ويخضع له، وغير ذلك من الصور التي لا تنسجم مع مبادئ علي (ع).
هـ) طلب تجنيب الوقوع في موقف الذلّ بالعفو بعد الأسر، أو التعرض للإهانة والتحقير من قبل المنتصر، وغير ذلك من الصور التي لا تنسجم مع شخصية علي ومكانته.
5. النداء بشعار النبي في الحرب: اعتادت القوات المتقاتلة في الحروب على رفع الشعارات، كوسيلة من وسائل بث الروح المعنوية في أتباع كل طرف، وإضعاف معنويات الطرف المقابل.
- وقد رفع المسلمون شعارات خاصة على عهد رسول الله (ص)، ويقول أكثر المؤرخين إنّ شعار المسلمين في عدة معارك، ومن بينها معركة بدر (يا منصور أمت) أو (يا منصور أمت أمت).
- وفي خيبر، نادى علي (ع): (يا كتيبة الإيمان).
- وفي غزوة ذي قَرَد (الغابة)، نادى النبي (ص): (يا خيل الله اركبي).
- وفي كتاب (الجمل) للشيخ المفيد أن علياً (ع) نادى بشعار (يا منصور أمت) فزُلزل الناس لما سمعوه: (فقال محمد بن الحنفية: قال لي أبي حين رأى القوم قد زحفوا نحونا: قَدِّم اللواء، فقدّمتُه، وزحف المهاجرون والأنصار. فلما رأى القومُ قد زَحفْتُ باللواء بارزاً عن أصحابي، رشقوني رشقةَ رجلٍ واحد، فوقفْتُ مكاني واتّقيتُ منهم، وقلت: ينقضي رشقُهم فيّ مرةً أو مرتين ثم أتقدم. فلم أشعر إلا وأمير المؤمنين (ع) قد ضرب بين كتِفَيّ بيده، ثم أخذ اللواء مني بيده ونادى: يا منصور أمت! فوالله ما سمعت القوم حتى رأيتُهم قد زُلزلت أقدامُهم، وارتعدت فرائصُهم).
- نفس هذا الشعار أطلقه مسلم بن عقيل بعد اعتقال هانئ بن عروة، حيث ابتدأ التحرك ضد السلطة الأموية بشعار يا منصور أمت، فبدأ الناس يتوافدون عليه.
- في تاريخ الطبري: (قال أبو مخنف: حدثنى يوسف بن يزيد عن عبد الله بن حازم قال: أنا واللهِ رسولُ ابنِ عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمرُ هانئ. قال: فلما ضُرب وحُبس، ركبتُ فرسي، وكنتُ أولَ أهلِ الدار دَخَل على مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوةٌ لمراد مجتمعاتٌ ينادين: يا عثرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدورَ حولَه، وقد بايعه ثمانية عشر ألفاً، وفى الدور أربعة آلاف رجل: فقال لي: ناد: يا منصور أمت، فناديت يا منصور أمت، وتنادى أهلُ الكوفة، فاجتمعوا إليه).
- واستعمل المختار الثقفي لاحقاً هذا الشعار علاوة على شعار (يا لثارات الحسين)، كما رفعه الشهيد زيد بن علي، وأبو مسلم الخراساني ضمن الثورة على الأمويين.
6. الامتناع عن السب: وهو من الآداب التي عُهدت عن علي (ع).
- وخير مثال على ذلك ما جرى في أجواء حرب صفين الطاحنة، ففي رواية أنه: (سمع قوماً من أصحابه يسبون أهل الشام [وفي الأخبار الطوال للدينوري: قالوا: وبلغ علياً أن حجر بن عدي وعمرو بن الحمق يظهران شتم معاوية، ولعن أهل الشام] فأرسل عليه السلام إليهم أن: كفوا عما يبلغني عنكم، فأتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين ألسنا على الحق؟ فقال عليه السلام: بلى، قالوا: أليس مَن خالفنا على الباطل؟ فقال عليه السلام: بلى ورب الكعبة المسدَّنة، قالوا: فلم تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ فقال عليه السلام: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين شتامين لعانين، ولكنكم لو وصفتهم مساوئ أعمالهم وذكرتم حالهم وسيرتهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، ولو قلتم مكان سبكم لهم، ولعنكم إياهم، وبراءتكم منهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يَعرفَ الحقَّ من جَهله، ويرعوي عن الغيِّ مَن لهِج به).
- ائتِ لي في التاريخ البشري من بين القادة العسكريين من امتلك هذه الروحية.. هذه الأخلاق الكريمة.. هذا الأدب الرفيع.. هل تجد ذلك إلا عند علي؟
7. حقن الدماء ما أمكن: لا يتوقف الأمر في روحية السلم عند علي (ع) عند حدّ الكلمة حين يمنع أصحابَه عن السب واللعن، ويرشدهم بدلاً عن ذلك إلى الدعاء، أو حقن الدماء قبل المعركة بالسعي للبحث عن حلول سلمية، وعدم البدء بالقتال كما تحدثنا عن ذلك بالأمس، بل يتجاوز ذلك إلى السعي لحقن الدماء بعد نشوب المعركة... ولنلاحظ الرواية التالية في (تهذيب الأحكام للطوسي):
- عن أبي عبد الله (ع) قال: (كان علي [ع] لا يقاتل حتى تزول الشمس، ويقول: تُفتَح أبوابُ السماء وتُقبل الرحمة ويَنزل النصر، ويقول: هو أقرب إلى الليل، وأجدر أن يقل القتل، ويرجع الطالب، ويفلت المهزوم). هكذا كان علي (ع)... ولكن كيف كان أعداؤه؟ - قال الشيخ المفيد في الإرشاد وهو يسرد إحدى روايات مقتله (ع): (فأقبل ابنُ مُلْجَم -وكان عِدادُه في كِنْدَة- حتى قَدِمَ الكوفة، فلقي بها أصحابَه، فكتمهم أمرهَ مخافةَ أن يَنْتَشِر منه شيء... وخرج ابنُ مُلْجَم فأتى رجلاً من أشجع يقال له [شَبيبُ بن بُجْرة]، فقال: يا شَبيب، هل لكَ في شرف الدنيا والآخرة؟ قالَ: وما ذاك؟ قال: تُساعدُني على قتل عليّ بن أبي طالب. وكان شَبيب على رأي الخوارج، فقال له: يا ابن مُلجَم، هَبَلَتْك الهَبُول، لقد جئتَ شيئاً إدّاً، وكيف تقدر على ذلك؟ فقال له ابنُ مُلْجَم: نَكمن له في المسجد الأعظم، فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به، وإن نحن قتلناه شَفَينا أنفسنا وأدركْنا ثأرنا. فلم يزل به حتى أجابه) ثم يذكر كيف مكثوا أياماً ثم (تقلّدوا أسيافَهم ومَضَوْا وجلسوا مقابلَ السُدّة التي كان يخرُج منها أمير المؤمنين إلى الصلاة... وذكر محمّدُ بن عبدالله بن محمّد الأزْديّ قال: إني لأصلّي في تلك الليلة في المسجد الأعظم مع رجال من أهل المصر كانوا يُصَلّون في ذلك الشهر من أوّله إلى آخره، إذْ نظرتُ إلى رجال يُصَلّون قريباً من السُدّة، وخرج عليّ بن أبي طالب لصلاة الفجر، فأقبل يُنادي «الصلاة الصلاة» فما أدري أنادى أم رأيتُ بَريقَ السيوف، وسمعتُ قائلاً يقول: [لله الحُكم - يا علي - لا لكَ ولا لأصحابك]. وسمعتُ علياً يقول: «لا يَفُوتَنّكم الرجل» فإذا علي مضروب) أي ضربه ابن ملجم (وقد ضَرَبه شَبيبُ بن بُجرَة فاخطأه ووقعت ضربتُه في الطاق، وهَرَب القوم نحو أبواب المسَجد وتبادر الناس لأخذهم. فأمّا شَبيب بن بُجْرة فأخذه رجل فَصَرَعه) ثم يذكر كيف قُتل (وأمّا ابنُ ملجم، فإنّ رجلاً من هَمْدان لَحِقَه فطَرَح عليه قَطيفة كانت في يده، ثمّ صَرَعه وأخذ السيفَ من يده، وجاء به إلى أمير المؤمنين... فلمّا أُدْخِلَ ابنُ مُلْجَم على أمير المؤمنين نَظَر إليه ثم قال: «النفسُ بالنفس، إن أنا مِتُ فاقْتلُوه كما قَتَلني، وإن سَلِمْتُ رأيتُ فيه رأيي»).
قل لابن ملجم والاقدارُ غالبةٌ * هَدَمتَ ويلك للاسلامِ اركانا
قتلتَ أفضلَ من يمشي على قدم * وأولَ الناس اسلاما وايمانا
وأعلمَ الناسِ بالقرآنِ ثم بما * سَنّ الرسولُ لنا شَرعا وتِبيانا
صهرَ النبي ومولاه وناصرَه * أضحت مناقبُه نوراً وبرهانا
وكان منه على رغمِ الحَسودِ له * مكانَ هارونَ مِن موسى بنِ عمرانا
وكان في الحرب سيفاً صارماً ذَكراً * ليثاً إذا لَقِيَ الاقرانُ اقرانا
ذكرتُ قاتلَه والدمعُ منحدرٌ * فقلتُ سبحان ربِّ الناس سبحانا
اني لأحسبُه ما كان مِن بشرٍ * كلا ولكنه قد كان شيطانا
أشقى مُرادٍ إذا عُدَّت قبائلُها * وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقرِ الناقةِ الأولى التي جَلبت * على ثمودَ بأرضِ الحِجر خُسرانا
قد كان يُخبرهم ان سوف يُخضّبُها * قبَل المنيةِ أشقاها وقد كانا
فلا عفا اللهُ عنه ما تحمَّلَه * ولا سقى قبرَ عمرانَ بنِ حَطّانا
لقوله في شقيٍّ ظل مجترماً * ونال ما نالَه ظلماً وعدوانا
يا ضربةً مِن تقي ما أراد بها * الا ليبلغ من ذي العرش رِضوانا
بل ضربةٌ من غَويٍّ اوردَتْه لظىً * فسوف يلقى بها الرحمنَ غضبانا
كأنه لم يُرِد قصداً بضربته * الا ليصلَى عذابَ الخلدِ نيرانا